Bookmark and Share 




شرح الحديث الخامس عشر من أحاديث الأربعين النووية

للشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله تعالى



تابع الدرس
(11)شرح حديث رقم: (13- 14- 15- 16)


وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) رواه البخاري ومسلم.
الحديث الخامس عشر من هذه الأحاديث الجوامع التي ضمها هذا الكتاب الصغير الحجم، الجليل القدر، العظيم الفائدة يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر))" هذا أسلوب يثير هذه الصفة العظيمة في قلب الإنسان لتتجه نحو ما أمرت به، ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) يعني في هذا الأسلوب استثارة للنفس، واستشعار لهذه الصفة العظيمة وهي الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله هو الأصل؛ لأن من لا يؤمن بالله لا يتورع عن شيء؛ لأنه ما بعد الكفر ذنب، واليوم الآخر الذي يؤمن باليوم الآخر عليه أن يستشعر هذا الإيمان باليوم الآخر، وعليه أن يستعد لهذا اليوم الآخر، الذي فيه النعيم المقيم، أو العذاب السرمدي الأبدي الذي لا ينقطع، وهذا هو السبب في تخصيص الإيمان باليوم الآخر بالذكر دون سائر أركان الإيمان.
((فليقل)) اللام لام الأمر، والأصل في الأمر الوجوب ((خيراً أو ليصمت)) (من) شرطية، كان يؤمن بالله فعل الشرط، وجواب الشرط ما دخلت عليه الفاء.
مفهوم الشرط أن الذي لا يقول خيراً ولا يصمت أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر، مع أن مفهوم الشرط فيه ضعف عند أهل العلم، وليس مراداً هذا المفهوم ليس بمراد، لكنه من تمام الإيمان بالله واليوم الآخر قول الخير أو السكوت، يقابل قول الخير يقابله ما لا خير فيه سواءً كان فيه شر أو لا شر فيه، فعندنا الكلام ينقسم إلى ما فيه خير، وما فيه شر، وما لا خير فيه ولا شر فيه، قول الخير لا تتردد فيه؛ لأنه جاء الأمر به ((فليقل خيراً)) البديل إذا لم يقل خيراً يقابله إما أن يكون فيه شر أو لا خير فيه ولا شر وحينئذٍ يلزم السكوت، ولا شك أن ما لا خير فيه ولا شر من نوع المباح يختلف حكمه عما فيه شر، فما فيه خير مطلوب، مطلوب قوله، وما فيه شر مطلوب تركه، وما لا خير فيه ولا شر هذا مباح مستوي الطرفين، لكن الأولى تركه، ليصمت، داخل في قوله ((فليصمت)) فعلى الإنسان إذا أراد أن يتكلم أن يزن هذا الكلام بميزان الشرع، فإن كان خيراً يقربه إلى الله -جل وعلا-، ويكتب في كفة حسناته فليقدم عليه، ولا يتأخر عنه، وإذا كان شراً من أنواع الكلام المحرم غيبة ونميمة وغير ذلك من النطق بالكلام المحرم كتقرير البدع وغيرها مثل هذا أو الكف والأمر وأمر الإنسان بأن يكف عن الخير، أو أمره أن يفعل شراً كل هذا الكلام شر، لا يجوز له أن ينطق به؛ لأنه يكتب في ديوان سيئاته، إذا كان كلام لغو، إذا تأمله الإنسان ما وجده يقربه إلى الله -جل وعلا-، وليس فيه شيء يقتضي أن يأثم بسببه من الكلام المباح، فإن هذا أيضاً عليه أن يصمت، وإن كان أمره بالصمت يختلف عن الكلام الذي يأثم بسببه، فقوله: ((فليصمت))...، ((فليقل خيراً)) هذا أمر ما فيه إشكال، مع أن هذا يختلف من حيث الوجوب والاستحباب إذا كان الكلام هذا واجب، فاللام لام الأمر وتقتضي الوجوب، وإذا كان الكلام في أمر مستحب فإنه يستحب ولا يجب عليه أن ينطق به، لكنه داخل في لام الأمر، وكذلك ما يقابله من الأمر بالصمت اللام لام الأمر فهل هي للوجوب أو للاستحباب؟ إن كان الكلام محرماً يجب عليه أن يصمت، وإن كان مكروهاً أو مباحاً يستحب له أن يصمت، وحينئذٍ نكون قد استعملنا اللفظ الواحد في أكثر من معنى، اللام لام الأمر، والأمر يحتمل الوجوب والاستحباب، واستعملناه في الأمرين، وأيضاً "ليصمت" يحتمل الوجوب وجوب الصمت، أو استحباب الصمت، واستعملناه في الأمرين على حسب ما يترتب على هذا الكلام أو على هذا الصمت، واستعمال اللفظ في معنييه جائز وإلا غير جائز؟ استعمال اللفظ في أكثر من معنى، يعني في حقيقته ومجازه على ما يقولون في آن واحد يجوز وإلا ما يجوز؟ يجوز عند من؟
طالب:......
لا، الأكثر على منعه، على منع استعمال اللفظ في معنييه في حقيقته ومجازه، في أكثر من معنى في آن واحد، لكن هو يستعمل في معنىً واحد، ويخرج من الصور بأدلة أخرى، فإما أن نستعمل ((فليقل)) للوجوب، ويخرج من ذلك الكلام المستحب بنصوص أخرى، ونقول: ((أو ليصمت)) الأمر للوجوب، ويخرج بعض الصور بنصوص أخرى على مقتضى كلام الأكثر، من يقول: إن اللفظ الواحد يستعمل في أكثر من معنى كالشافعية ما عندهم مشكلة في مثل هذا.
((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر)) وهذا فيه كما في سابقه من استثارة حمية الإيمان بالله وباليوم الآخر لتنهض الهمة لامتثال هذا الأمر، وهو ((فليكرم جاره)) الجار له حق عظيم، وجاء في الحديث الصحيح: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) كالأقارب، والجار يختلف أهل العلم في تحديده، وجاء في بعض الآثار ما يدل على أنه يشمل أربعين داراً، ولا شك أن الدور في وقته -عليه الصلاة والسلام- تختلف عن الدور في وقتنا، غالب الدور من غرفة في وقته، وفي صدر هذه الأمة الدور صغيرة، وإلى وقت قريب إلى أن فتحت الدنيا على الناس والبيوت القصور منها مائة متر، وقد تصل إلى خمسين ستين متر، وأدركنا هذه، وما زالت موجودة، الدور الصغيرة، لكن فتحت الدنيا على الناس، فصار الأربعون داراً تعادل قرية فيما سبق؛ لأنها صارت بالألوف، الدور بألوف الأمتار، وبمئات الأمتار، فكلما زادت المشقة سهل الأمر.
وقل مثل هذا في صلة الأرحام، صلة الأرحام واجبة، والقطيعة محرمة، وتحريمها شديد، لكن هل يستوي من له عم واحد وخال واحد، مثل من له عشرة أعمام وكل واحد من هؤلاء الأعمام له جمع من الأولاد، وسبعة أو ثمانية أخوال وخالات وعمات هل يلزم بالصلة مثل ما يلزم به صاحب العم الواحد الذي ليس لديه إلا عم واحد أو خال واحد؟ لا، كلما زاد الأمر، وزادت المشقة على المكلف سهل الأمر، يعني بدل من أن تصل هذا العم الواحد في كل أسبوع تصل العم من عشرة أعمام كل شهر، والواحد من عشرات أبناء الأعمام مرة في السنة، لكن لو لم يكن إلا عم واحد وابن عم واحد، هذا تزيد التبعة، وقل مثل هذا فيما إذا كانت الجيران مجتمعين متقاربين غير متفرقين يشق عليك إكرامهم جميعاً.
((فليكرم جاره)) الجار قد يكون قريباً في النسب، فيجتمع له من الحقوق أكثر من الجار البعيد في النسب، وقد يكون الجار مسلماً فيكون له من الحقوق أكثر من الجار غير المسلم، فالجار القريب المسلم له ثلاثة حقوق، له بكل وصف حق، والجار البعيد في النسب المسلم له حقان: حق الإسلام وحق الجوار، والجار غير المسلم له حق واحد، وهو حق الجوار.
((فليكرم جاره)) وجاء من النصوص في هذا الباب الشيء الكثير، ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) ومن أعظم صور الزنا الزنا بحليلة الجار، أعظم من المرأة البعيدة، وإن كان الزنا كله عظيم وفاحشة وموبقة من الموبقات لكن يتفاوت، فالزنا بالمحارم شأنه عظيم، وحده تحتم القتل وإن لم يكن ثيباً، والزنا بحليلة الجار أيضاً أمره وشأنه عظيم، والزنا كله أمره عظيم، وجرمه كبير -نسأل الله العافية-.
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) يكرم جاره لا يؤذيه بأي نوع من الأذى يصل إليه خيره، ويكف عنه شره، لا بد من هذا، ومن أنواع الإكرام للجار الكلمة الطيبة، الوجه الطلق، تسلم عليه، ترد -عليه السلام-، تسأل عن حاله وعن حال ولده، تدعو له، تدعوه، تزوره في بيته، هذه كلها من إكرام الجار، مع الأسف أن يطرق الباب ليسأل عن بيت أو عن فلان وين بيت فلان والله ما ندري؟ وقد حصل، وليس بينهما إلا جدار، وين بيت فلان؟ والله ما ندري، هذا بُعد عن تعاليم الشرع، لكن ما تعرف اسمه ولا تعرف، ولا تدري أن هذا فلان بن فلان كيف؟! هذه مرحلة أخيرة من القطيعة، والله المستعان.
((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) ومثلما تقدم يقال هنا، التنصيص على الإيمان بالله واليوم الآخر استثارة للحمية الإيمانية بالله واليوم الآخر ((فليكرم ضيفه)) اللام لام الأمر والأمر للوجوب، يقدم الضيف فيجب إكرامه لا سيما في اليوم الأول كما جاء بذلك النص، وما عدا ذلك فهو إحسان، وأهل العلم يفرقون بين الضيف النازل في قرية والنازل في مدينة، والنازل على شخص في باديته إذا كان يجد من يقوم بحاجته كالمطاعم والفنادق فهذا يختلف عن القرية التي ليس فيها مطاعم ولا فنادق، وعن بيوت البادية التي لا يوجد حولها من يحل الإشكال، فلا شك أنه إذا وجد من يقوم بإطعامه وإيوائه فإن الأمر يكون أخف، ولا يجب حينئذٍ أن يضيف وأن يطعم وفي جيبه الأموال، وبإمكانه أن يسكن، وبإمكانه أن يأكل؛ لأن الحاجة ارتفعت، أما إذا كان في قرية أو في هجرة بادية أو بيوت متفرقة من بيوت البادية التي لا يوجد حولها خدمات، فإنه حينئذٍ الأمر على أصله يجب.
يذكر بعض أهل العلم أنه إذا طرق عليه الضيف مثلاً وقال له -وهذا موجود في بيوت المسلمين إكرامه بإطعامه وإيوائه- قال: البيت والله ما في مكان لإيوائك، البيت صغير والأسرة كبيرة، هل يلزمه أن يدفع له قيمة ما يسكنه، أو يبحث عن غيره ممن في بيته سعة فيؤيه؟ على كل حال لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لو افترضنا أن هذا ليس عنده ما يطعم ولده، هل نقول: يجب عليه أن يكرم ضيفه؟ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، هذا لا يستطيع، هذا الضيف الذي ليس له مأوى في البلد، وأما الذي له مأوى في البلد ويطرق عليك فأنت مخير بين أن تكرمه وتدخله المنزل، وبين أن تعتذر منه وينصرف.
((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) الآن الحمد لله توسعت الأمور ووجدت الفنادق، ووجدت المطاعم، حتى أن بعض الناس وهو في بلده وهذا موجود كان في البلدان المجاورة، لكن الآن موجود عندنا، يدعو الأضياف في مطعم، ويؤيهم ويطعمهم وبيته آهل بالسكان وآهل بأنواع المطاعم والمشارب، لكن الناس زاد عليهم الترف حتى صاروا يجتمعون في أماكن بعضها لا تليق ببعضهم؛ لأنه وجد من طلاب العلم من تكون مناسباتهم في المطاعم وفي الأماكن التي بعضها لا يليق بهم، فالتوسع في مثل هذا غير مرضي؛ لأنه ما دام عندك مسكن يشمل ويسع هؤلاء الضيوف لا داعي لأن تتكلف وتكلف غيرك، وتنزل نفسك بهذه المنزلة، في بعض البلدان انتشر فيهم هذا الأمر وأكلهم في هذه الأماكن لا يعد خرماً للمروءة، فالأمر فيها سعة -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه وجد من أهل العلم الكبار في البلدان الأخرى في مصر والشام وغيرها من تكون اجتماعاتهم ومناسباتهم في هذه الأماكن.

سكربت الأربعين النووية - لأجلك محمد صلى الله عليه وسلم